توطئة :
كان القصر يتهادى فوق صفحة ماء رقراقة, تسبح فيها الأسماك ذات الأحجام المختلفة والألوان المذهلة , و تعكس شعاع القمر الذي تختلط تفاصيله بدماء الأسماك الصغيرة التي تمزقها أسنان أكبر منها ..
ردهات القصر ترتجف تحت أقدام العابرين هنا وهناك ..
صمتٌ تقطعه الهمسات التي تزفر آخر احتمالاتها .. الملك يستدعي جنوده في سابقة تمثل محنة لم تمر يوماً على القصر الذي يعمُّ فيه الرخاء والدلال , ووقع الأنخاب واحتكاك الأجساد فوق البلاط المرمري ..
توقفت الأفران عن توزيع الحصص المقننة من الخبز , كما توقفت معامل النسيج التي كانت تعد العدة لشهر عمل ٍ كامل, لأن جلالته سيحتفل بزواج ابنته درة القلوب ..أما راقصات حي النشوة فقد تجرأ الامتعاض بالتسلل إليهن, وبدأن بقذف الخصيان بكل ما يقع أمامهن ... أما مصانع الزجاج والخشب المضغوط والبلاستيك فقد استعانت بعمال من دول مجاورة كي تواكب حدث الزفاف الميمون هي أيضاً توقفت بإشارة من جلالته .. وبدأت الأسر تقنن على أطفالها الطعام والكلام لحين صدور أي قرار يفك عقدة الوضع الحالي ..
خرج طفل من بين مزق ثياب أمه وصاح في ساحة المملكة: أنا جائع يا لصوص .
لكن الطفل وبلمح البصر تحول إلى لعنة على أهله وجيرانه وأولاد حارته حيث خُسفت الأرض بكل تلك العناصر المشاغبة التي زادت بؤس الملك , وطيَّرت النوم عن أجفانه الرضية , وتسابق الأعيان في رمي الحجارة فوق مقبرة ذلك العاصي , وتحولت حارة الأشرار التي كان يقطن فيها ذلك المشاغب إلى حارة الحرائق التي لا زالت تحتفظ برائحة النار إلى يومنا هذا ..
جغرافيا :
تنقسم مملكة النسيان ـ وهذا اسمها ـ إلى أربعة أحياء: الشرقي واسمه حي الأغرار ويسكنه المجاذيب الذين تم طردهم لعلة تسكن في عقولهم وملامحهم التي كانت السبب المباشر في أرق الملك الأول قبل الألف, فأشار عليه أحد المخلصين بأن يطرد هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم اسم الشعراء والكتبة والرسامين إلى تلك الزواريب المنتنة ذات الروائح المنفرة حيث تقيم أهرامات من النفايات, وتحويل ماء الصرف الصحي على ينابيع شرابهم كي يكفوا عن تزييف حقيقة الملك الطيب الذي عينه لا تغفل ولا تنام ..
وجنوبي يقنطه ما سمي بالأشرار , ويسكنه أصحاب الأفكار التي تعمل ليل نهار على تنفيذ ما يكتبه, ويقوله ويرسمه الأغرار الملاعين , ويقع بجوار مقبرة المملكة وقد تم نقلهم إلى هذا المكان لأنهم كانوا السبب المباشر في الموت السريري للملك الثاني بعد الألف فأشار أحد مهندسي المملكة على وريثه البالغ من العمر ثمانية أشهر أن يتم تجريف تلك الفئة المشعوذة من البشر حيث القبور مجهولة الهوية ..
شمالي وتقطنه صاحبات الجمال ومولِّدات البهجة في الأوصال الميتة, والأعضاء المتدلية، وقد سمي حي النشوة ..
وغربي وقد سمي حي الحق, وتبلغ مساحته أكثر من ثلاثة أرباع المملكة.. يقطنه الملك الطيب ونسله العريق وقد مُنع اختلاط الأنساب كي لا يذهب بهاء وجلال العرق الآري الفريد في نوعه عن آل الورد ..
تاريخ :
يقال إن كتب التاريخ التي كانت تُلقن لتلاميذ المملكة مزورة حتى النخاع ,لأنها تستند على تاريخ الحكايات التي تبدأ بحكاية أمنا الغولة التي طاردها الملك الهمَّام بسيفه الوردي, ونال منها , ثم زوَّجها لأحد أعيانه وحوَّلها لأم حقيقية , وقد أنجبت البنات والبنين وربتهم تربية صالحة وأعدتهم رجالا ونساء يبشرون بالخير والتزام الدين والأخلاق , ولا تنتهي بقصص أليس في بلاد العجائب, والإوزات المتوحشة اللواتي أجبرهن إيمان الملك وعفته على اعتناق ديانته وترك بلادهن ..
وأما التاريخ الحقيقي لآل الورد يحتفظ به كاملاً عجوز مصاب بالخرف يسكن في زقورة بعيدة عن العيون, تصدر عنها أصوات تبث الرعب في القلوب وتُعتبر تلك الخلوة مادة دسمة لإذاعة المملكة التي تفرد برنامجاً صباحيا وآخر مسائيا, يتحدث عن ذلك الآبق الذي ينشر الرعب والخوف في الأصقاع كلها ..
علوم جسدية :
انكب علماء مملكة النسيان على دراسة الصبغيات التي تطيل عمر النطفة الذكرية, وتسرِّع حركتها بحيث لا تسبقها نطاف ملك مملكة الجسور المعادية , التي تتوارد أخبار اختراع العلماء هناك كل يوم إلى مملكة النسيان والتي تقول بأنها جعلت من ملكها ثوراً لا يشيخ ..
ولأن ملك مملكة النسيان كان قد جاوز المائة عام فقد أمر بقطع رأس عالم الجينات الشاب الذي أسكن صبوة مزيفة في خيال جلالته , ولأن تلك الصبوة تراخت عندنا شمَّت أنفه المعظمة رائحة أول امرأة تم عبرها كشف خيانة ذلك العالم العميل.... لذلك تم تجريد الخائن من ثيابه , ثم جره بالقيود الحديدية أمام كل الرعية التي كانت تتسابق بالبصاق عليه,وقذفه بالبيض .. والمفارقة أن بعض النساء أخفين عدداً لا يستهان به من البيض في صدورهن الضامرة كما أن أطفال المملكة تسابقوا في لعق ماء البيض اللزج عن الإسفلت الحار والجدران المتآكلة , وعن ثياب آبائهم وأمهاتهم ...
علوم فلكية:
يقال أن مهندس الحرب الأخيرة على مملكة الجسور المعادية.. كان من تدبير عقل امرأة مقربة من جلالته بسبب رهان تم بينها وبين ابن الملك الباهر الجمال , فقد راهنا على لون الثياب الداخلية لأربعة من جميلات حي النشوة وهن سمارا , وتمارا , ونارا.. ولارا .وللمصادفة فقد أحرزت تلك المرأة فوزاً كاسحاً على أمير الأمراء ونالت لقب مشعوذة القلوب في أرجاء المملكة , وقد فنّدت عبر حوارات صحفية عن حدسها الذي لا يضاهيه حدس آخر وتوقعت بحرب لا تبقي ولا تذر, تراها قريبة وقد وضعت ألوان الثياب الداخلية كنقطة ارتكاز على ما سيجري في أتون تلك الحرب, فلو كانت رايات الأعداء بلون الثياب الداخلية لـ " سمارا " ستحرز مملكة النسيان نصراً مدوياً , وإن كانت رايات الأعداء بلون الثياب الداخلية لـ " تمارا " فإنهم سيقتلون أكبر عدد من الجنود، بغض النظر عما ستفرزه الحرب من نتائج, ولو كانت رايات الأعداء بلون الثياب الداخلية لـ " نارا " فإنهم سيحرقون الأرض من تحت أقدام الأعداء , ولو كانت الرايات بلون الثياب الداخلية لـ "لارا " ستكون الهزيمة البيضاء , بمعنى آخر سيتعادل عدد القتلى بين الطرفين لأن " لارا " لها أصول جسورية قد تسبب في هزيمة متعادلة , أو تسبب بمصالحة لن ترضي أيًّا من الأطراف ..
وكان أن تم إعدام لابسات الثياب الداخلية بسبب ما أودت به ثيابهن من نتائج كارثية لم تكن في الحسبان , بينما تم ترقية المشعوذة إلى رتبة وزير بلا حقيبة .
ترفيه وتسلية :
قبل أن يشب سمو الأمير الباهر الجمال , تجاذبته تيارات عدة, فمرة يدعو للفساد, ومرة للتدين, ومرة للخروج من عباءة الآباء إلى فضاء الحداثة...
لكن ما كان يهمس به الناس هو أهم من كل ما كُتب في سيرته الذاتية المحفورة بماء الذهب والمنتشرة في الأصقاع .. والناس لن تنسى تلك القصة التي كانت السبب في رحيل أجمل فتيات المملكة .. فقد أدرك الطفل الاحتلام وهو في سن الثالثة , فاعتبر الملك أن هذه معجزة تحصل كل ألف عام مرة لآل الورد , وقرر أن يرهن لخدمة احتلام طفله أجمل فتيات المملكة وأصغرهن سناً , ولأن "زهر البان" طفلة لم تتجاوز الرابعة من عمرها فقد ماتت بين يدي أبرز معلمي سمو الأمير لأنها لم تحتمل ما كان يُجرى عليها من تجارب ..
أما بعد أن بلغ الأمير الوسيم الرشد والصلاح حكى لأحد مقربيه بأنه كان يقرض حبوباً زرقاء شهية الطعم كان يجدها تحت وسائد أبيه المنتشرة في قصره المشهور باسم قصر المخدع ..
الكتاب السري :
اجتمع عدد لا بأس به من شباب حي المقابر وحي النفايات , أخفت همساتهم أصوات الصخب التي كانت تهجم من نوافذ القصور المتوزعة فوق التلال والهضاب وعلى ضفاف الأنهار , المترعة بروائح الشواء التي كانت تجذب الأطفال والكلاب والقطط حيث ستدور معركة تختلط فيها تفاصيل الجوع ..
يمم الشباب شطر عجوز الصومعة تحت جنح الليل وقد اختاروا أكثر الطرق وعورة , وضيقاً, كانت قلوبهم تتسع كلما لاحت زقورة العجوز مثل شراع يسبح في ماء أحلامهم
كانت أنفاسهم تتلاحق وتبخرها لعنة الليل التي حطت فوق رؤوسهم عبر وشاية كانت السبب في تأجيل زفاف الأميرة "درة القلوب" التي حاولت أن تفض بكارتها بيدها لأنها ملّت من التأجيل ... بينما لقي الشباب الخارجون عن عقيدة المملكة مصرعهم في عملية هي الأعنف منذ جلوس الملك الهمّام الثامن بعد المائة على كرسي العرش , لكن قلباً بين قلوب القتلى بقي ينبض وينتفض كقلب حمامة , فعندما انكشف غبار المجزرة الرهيبة زحف القلب مكملاً طريق الجلجلة حتى وصل بعد سبعة أيام بلياليها إلى صومعة تتلاعب فيها الشمس والريح ..
في تلك الليلة ظهر الكتاب السري في أحلام سكان مملكة النسيان طائراً أبيض الصفحات يتحدث عن بلاد لا أجمل ولا أروع , حدودها السماء الزرقاء , ضفافها ملاعب الأنهار , بيوتها متلاصقة بوضعية عشق أبدية , حدائقها باسمة الروح منعشة القلب , سكانها خليط من فرح ووداد .. هجم عليهم في يوم غاب بياضه مجموعة من الجائعين , هدّوا الحصون, قطعوا أنفاس الحدائق, استولوا على الثغور, وقتلوا الحكماء وأحرقوا كتبهم , ووسموا أنفسهم بشعار الورد.. وسالت الحروف الذهبية في أرجاء المملكة وقد التبس تفسيرها على أكثر الحكماء فصاحة وبلاغة حيث يقول الشعار : "ازرع مكان كل قتيل وردة, ومكان كل وردة ذابلة قتيل "